لقد كان لطبيعة النشأة التي أحاطت بـ«خيرية السقاف» كبير الأثر في تكوين قيمها الإنسانية؛ لأن عددا من المقومات أسهمت في تشكيل هذه النزعة لديها، سواء أكانت تلك المقومات اجتماعية، أم حضارية، أم ثقافية. فنجدها على الصعيد الاجتماعي ولدت ونشأت أول عمرها في مكة المكرمة، وهو ما عكس قدسية المكان على النفسية الإبداعية المتزنة، فهي دائما ما تسلط الضوء في مضمون مقالاتها على روح الإنسان ومشاعره، من خلال القيم التي تسمو بها روحه، وتزكو بها نفسه... لقد شكلت القيم الإنسانية الحيز الأكبر في مقالات خيرية السقاف، فلا تكاد تخلو مقالة لها إلا وتتوشح بالقيم النبيلة، سواء كان ذلك بأسلوب مباشر أو ما بين السطور.
وأسهمت الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها خيرية السقاف في رفع مستوى الإنسانية لديها على مستوى المضمون والمعنى، ومستوى العبارات والمصطلحات، لتترفع عن الإساءة في الكثير من مقالاتها، تقول السقاف في زاويتها «من الخاطر» قبل 40 عاما: «أعتقد بأن القارئ أصبح على ثقة تامة بالمبادئ التي يعتنقها هذا القلم». تقول هذا وهي في ريعان شبابها، ولحظات عمر يفتتن فيه كل ذي علم أو ظهور إعلامي بنفسه.
وترك المقوم الحضاري الذي ساهم بشكلٍ لافتٍ في تشكيل نبرتها الإنسانية العالية، إضافة إلى أن كثرة القراءة والمطالعات كانت سببا رئيسا في تكوين هذا الجانب، فقد كانت وما زالت قارئة نهمة لم تترك فنا ولا أدبا إلا واستقت منه شربة هنية.
ويظهر المقوم الثقافي لخيرية السقاف، المتمثل في قراءاتها المتنوعة التي أسهمت في تشكيل المستوى الثقافي العالي لديها لنجد أسلوبها الثقافي في مقالتها وما فيها من شفافيةٍ ورقةٍ لافتة، مع ميل إلى اللغة الشعرية يذكرنا بالرومانسية الحديثة، دون الرومانسية القديمة التي تجاوزتها كثيراً، بإسقاء موضوعاتها بجرعات إيمانية مفعمة بالتفاؤل والأمل لتصنع جواً من التفاعل الحميمي مع قرائها، حتى أصبحوا لا يستغنون عن مقالاتها. فهم يعرفون أن خيرية السقاف لا تكتب للإنسان فقط! بل تكتب لروحه العطشى وتهمس في وجدانه بكل شاعرية.
وانعكست إنسانية خيرية السقاف على مقالاتها من خلال اختيارها لموضوعاتها وطريقة عرضها، فطرحها لمواضيع تتصل مباشرة بالإنسان من حيث إنسانيته وعلاقته بالمجتمع ومحيطه، وما يتعلق باستجابته للأحداث من حوله، فناقشت العديد من الموضوعات في كثير من المقالات.
وتؤكد خيرية السقاف، من خلال مقالتها على أن التناقضات والتغيرات التي تحيط بالحياة البشرية والمشهد البشري، التي كان للحروب دور مهم فيها، فالحروب كانت سببا رئيسيا ومهما في استبدال أقوام بآخرين، وبإبراز طبيعة الإنسان التي تقوم على حبه للسلطة والسيطرة، فهي سلاح ذو حدين، تعمل على تدمير معالم قوم لتُنشئ معالم آخرين، فالحروب هي العلامة الجوهرية المهمة في بيان التغيير الذي طرأ على هذه الأرض، وفي نقطة مهمة تذكرها الأديبة تبين من خلالها ما يختلط عند الإنسان من مفهومي الدفع والسبب، وكيف يكون الضعفاء والمساكين الذين لا يملكون السبب والحجة ثقابا تشتعل من خلاله الحروب والفتيل والبارود.
وتذكر خيرية السقاف أن كل فئات البشر يؤمنون فقط بما يملكون من قضايا وأفكار، وإن كانت تلك القضايا والأفكار تتناقض وتختلف مع ناموس الحياة الذي يقوم على نشر الحق والأمن والإيمان، والدعوة للعيش بأمان وسلام، والتكيف مع الآخرين والتعارف عليهم، دون اعتداء أو انتهاك للآخرين، كما أن الحروب بشتى أشكالها مكروهة ومذمومة، لا يحبها أحد، وتتساءل السقاف كيف يرى الناس الحروب التي يعاصرونها الآن، ويشاهدون كل ما يحدث فيها من تفاصيل وويلات، وتنهي مقالتها بتساؤل ممزوج بالحسرة والألم أنه كم من القلوب ستفنى وتندثر وقد استعرت بنيران ما يحدث من أحداث وحروب، وما يمنح من مؤشرات ناموس الحياة.
وفي نموذج آخر تتناول خيرية السقاف، في مقالتها «سجن الأخلاق» الحديث عن الصدق والأخلاق الحميدة، الأمر المتصل مباشرة بالإنسان وما يتعلق به من صفاتوكيف أن الكثير من الناس لم يعودوا يتسمون بالأخلاق الحميدة وخصوصا «الصدق» تقول:
«ليست كل الحقائق في ما يقال حقائق..
حتى الحقيقة تلبس أثواباً.. وأثواباً..
أما الحقيقة ذاتها فهي وليدة الصدق، والصدق قوام الأخلاق، وأس الأمانة..».
وحاولت خيرية السقاف التعبير عن مرادها وتوصيل المغزى من كلامها عن طريق الأسلوب البلاغي المجازي، فبدءا من العنوان حرصت السقاف على أن يكون مجازا معبرا فاختارت عنوان «سجن الأخلاق»، ومن الواضح أن هذا العنوان لم يأتِ على سبيل الحقيقة وإنما على سبيل المجاز، فهل للأخلاق سجن؟ ولكنها رأت أن اختيارها لمثل هذا العنوان سيكون مفتاحا للنص الذي يتناول الحديث عن الأخلاق وعن الصدق.
ولخيرية السقاف العديد من المقالات التي يسري عليها ما سبق شرحه وإيضاحه من إنسانية المضمون والمحتوى، وعبقرية اللفظ والعبارة والبيان، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا أننا أمام آلاف المقالات الأدبية الرائعة، فنتاج ما يزيد على أربعين عاما من العطاء الممتد لا يمكن بأي حال من الأحوال حصره هنا، فهذا جهد المُقل وبضاعته المزجاة.
فلم تكن مقالات خيرية السقاف قائمة فقط على الأسلوب النثري والعبارات المباشرة والخالية من العواطف أو الصور الفنية والألوان البديعية، بل كانت تقترب وبشكل كبير من اللغة الشعرية من جهة، وتعالج أهم القضايا الإنسانية التي تصب في عمق احتياج الإنسان من جهة أخرى، فاختارت السقاف لمقالاتها أن تكون مميزة عن المقالات الأدبية الأخرى، بكل ما فيها من لغة، وأسلوب، ومعانٍ، ومضامين، وصور وألوان بديعية، وبيانية، وبلاغية.
ولغة السقاف لغة إيحائية تحفل كثيرا بالكلمات الثرية ذات الدلالات المتنوعة، ليست لأنها كلمات خاصة تصلح لأن تكون إيحائية، فليس ثمة كلمات إيحائية وأخرى غير إيحائية في طبيعتها المعجمية، وإنما تكتسب هذه الصفة من خلال استخدامها استخداما خاصا يضفي عليها جمالا ويسمها بالإيحائية والرمزية والبعد الدلالي. وهذه طبيعة اللغة الشعرية.
فاللغة الشعرية تبتعد عن الاستخدام النمطي وتعمد عن تجاوز الإشاري إلى الانفعالي لتأخذ من العالم الخارجي صورتها العينية، ومن العالم الداخلي بعدها الانفعالي المختلط، حيث تختلط فيها عوالم الأحلام والواقع واللاواقع، وتسعى إلى تشكيل خلقٍ جديدٍ من علاقات جديدة في طريقة جديدة من التعبير، وعندها لا تكتفي اللغة الشعرية بالصورة، بل تتعداها في بحثها عن الإيحاء والتوسع والشمول إلى الرمز.
إن رسم اللوحة السردية في أسلوب السقاف يمارس الزج بالقارئ في عالم التأمل، مسقطة في وعيه روح الأمل والتفاؤل الذي يتسم به أسلوبها طيلة عطائها الأدبي، فلا تكاد تخلو مقالة من بياض، وأمل قادم، واستشراف حسن، أو فأل جميل، أو تاريخ ناصع، أو شخص فائت أعاد الوصف حضوره البهي للذاكرة.
إن دور النص في مقالات خيرية السقاف لا يتوقف عند كلماته ومستويات نظامه اللغوي بأصواته وصرفه ونحوه ودلالته اللفظية، بل ينفذ إلى ما وراء النص المتكامل من عوامل معرفية ونفسية واجتماعية، ومن عمليات عقلية، كأن النص حصيلة لتفاعلها جمعيا؛ لتلقي بالمفهوم المضموني عبر الإبداع النصي وبلاغته، فتشكل مفاهيم موسومة بعمق الرؤية، ورحابة القناعات الإيجابية التي تحملها الرسالة الأدبية لديها، ويتضح ذلك من خلال ما قدمته مقالات خيرية السقاف عبر نصف قرن أو أكثر من توجيه للأفكار وإصلاح للمفاهيم، وإفادة ومنافع فكرية وسلوكية، وقضايا في ما تحمله كل مقالاتها من هم ورسالة.
* محاضرة في جامعة الملك عبدالعزيز.
وأسهمت الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها خيرية السقاف في رفع مستوى الإنسانية لديها على مستوى المضمون والمعنى، ومستوى العبارات والمصطلحات، لتترفع عن الإساءة في الكثير من مقالاتها، تقول السقاف في زاويتها «من الخاطر» قبل 40 عاما: «أعتقد بأن القارئ أصبح على ثقة تامة بالمبادئ التي يعتنقها هذا القلم». تقول هذا وهي في ريعان شبابها، ولحظات عمر يفتتن فيه كل ذي علم أو ظهور إعلامي بنفسه.
وترك المقوم الحضاري الذي ساهم بشكلٍ لافتٍ في تشكيل نبرتها الإنسانية العالية، إضافة إلى أن كثرة القراءة والمطالعات كانت سببا رئيسا في تكوين هذا الجانب، فقد كانت وما زالت قارئة نهمة لم تترك فنا ولا أدبا إلا واستقت منه شربة هنية.
ويظهر المقوم الثقافي لخيرية السقاف، المتمثل في قراءاتها المتنوعة التي أسهمت في تشكيل المستوى الثقافي العالي لديها لنجد أسلوبها الثقافي في مقالتها وما فيها من شفافيةٍ ورقةٍ لافتة، مع ميل إلى اللغة الشعرية يذكرنا بالرومانسية الحديثة، دون الرومانسية القديمة التي تجاوزتها كثيراً، بإسقاء موضوعاتها بجرعات إيمانية مفعمة بالتفاؤل والأمل لتصنع جواً من التفاعل الحميمي مع قرائها، حتى أصبحوا لا يستغنون عن مقالاتها. فهم يعرفون أن خيرية السقاف لا تكتب للإنسان فقط! بل تكتب لروحه العطشى وتهمس في وجدانه بكل شاعرية.
وانعكست إنسانية خيرية السقاف على مقالاتها من خلال اختيارها لموضوعاتها وطريقة عرضها، فطرحها لمواضيع تتصل مباشرة بالإنسان من حيث إنسانيته وعلاقته بالمجتمع ومحيطه، وما يتعلق باستجابته للأحداث من حوله، فناقشت العديد من الموضوعات في كثير من المقالات.
وتؤكد خيرية السقاف، من خلال مقالتها على أن التناقضات والتغيرات التي تحيط بالحياة البشرية والمشهد البشري، التي كان للحروب دور مهم فيها، فالحروب كانت سببا رئيسيا ومهما في استبدال أقوام بآخرين، وبإبراز طبيعة الإنسان التي تقوم على حبه للسلطة والسيطرة، فهي سلاح ذو حدين، تعمل على تدمير معالم قوم لتُنشئ معالم آخرين، فالحروب هي العلامة الجوهرية المهمة في بيان التغيير الذي طرأ على هذه الأرض، وفي نقطة مهمة تذكرها الأديبة تبين من خلالها ما يختلط عند الإنسان من مفهومي الدفع والسبب، وكيف يكون الضعفاء والمساكين الذين لا يملكون السبب والحجة ثقابا تشتعل من خلاله الحروب والفتيل والبارود.
وتذكر خيرية السقاف أن كل فئات البشر يؤمنون فقط بما يملكون من قضايا وأفكار، وإن كانت تلك القضايا والأفكار تتناقض وتختلف مع ناموس الحياة الذي يقوم على نشر الحق والأمن والإيمان، والدعوة للعيش بأمان وسلام، والتكيف مع الآخرين والتعارف عليهم، دون اعتداء أو انتهاك للآخرين، كما أن الحروب بشتى أشكالها مكروهة ومذمومة، لا يحبها أحد، وتتساءل السقاف كيف يرى الناس الحروب التي يعاصرونها الآن، ويشاهدون كل ما يحدث فيها من تفاصيل وويلات، وتنهي مقالتها بتساؤل ممزوج بالحسرة والألم أنه كم من القلوب ستفنى وتندثر وقد استعرت بنيران ما يحدث من أحداث وحروب، وما يمنح من مؤشرات ناموس الحياة.
وفي نموذج آخر تتناول خيرية السقاف، في مقالتها «سجن الأخلاق» الحديث عن الصدق والأخلاق الحميدة، الأمر المتصل مباشرة بالإنسان وما يتعلق به من صفاتوكيف أن الكثير من الناس لم يعودوا يتسمون بالأخلاق الحميدة وخصوصا «الصدق» تقول:
«ليست كل الحقائق في ما يقال حقائق..
حتى الحقيقة تلبس أثواباً.. وأثواباً..
أما الحقيقة ذاتها فهي وليدة الصدق، والصدق قوام الأخلاق، وأس الأمانة..».
وحاولت خيرية السقاف التعبير عن مرادها وتوصيل المغزى من كلامها عن طريق الأسلوب البلاغي المجازي، فبدءا من العنوان حرصت السقاف على أن يكون مجازا معبرا فاختارت عنوان «سجن الأخلاق»، ومن الواضح أن هذا العنوان لم يأتِ على سبيل الحقيقة وإنما على سبيل المجاز، فهل للأخلاق سجن؟ ولكنها رأت أن اختيارها لمثل هذا العنوان سيكون مفتاحا للنص الذي يتناول الحديث عن الأخلاق وعن الصدق.
ولخيرية السقاف العديد من المقالات التي يسري عليها ما سبق شرحه وإيضاحه من إنسانية المضمون والمحتوى، وعبقرية اللفظ والعبارة والبيان، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا أننا أمام آلاف المقالات الأدبية الرائعة، فنتاج ما يزيد على أربعين عاما من العطاء الممتد لا يمكن بأي حال من الأحوال حصره هنا، فهذا جهد المُقل وبضاعته المزجاة.
فلم تكن مقالات خيرية السقاف قائمة فقط على الأسلوب النثري والعبارات المباشرة والخالية من العواطف أو الصور الفنية والألوان البديعية، بل كانت تقترب وبشكل كبير من اللغة الشعرية من جهة، وتعالج أهم القضايا الإنسانية التي تصب في عمق احتياج الإنسان من جهة أخرى، فاختارت السقاف لمقالاتها أن تكون مميزة عن المقالات الأدبية الأخرى، بكل ما فيها من لغة، وأسلوب، ومعانٍ، ومضامين، وصور وألوان بديعية، وبيانية، وبلاغية.
ولغة السقاف لغة إيحائية تحفل كثيرا بالكلمات الثرية ذات الدلالات المتنوعة، ليست لأنها كلمات خاصة تصلح لأن تكون إيحائية، فليس ثمة كلمات إيحائية وأخرى غير إيحائية في طبيعتها المعجمية، وإنما تكتسب هذه الصفة من خلال استخدامها استخداما خاصا يضفي عليها جمالا ويسمها بالإيحائية والرمزية والبعد الدلالي. وهذه طبيعة اللغة الشعرية.
فاللغة الشعرية تبتعد عن الاستخدام النمطي وتعمد عن تجاوز الإشاري إلى الانفعالي لتأخذ من العالم الخارجي صورتها العينية، ومن العالم الداخلي بعدها الانفعالي المختلط، حيث تختلط فيها عوالم الأحلام والواقع واللاواقع، وتسعى إلى تشكيل خلقٍ جديدٍ من علاقات جديدة في طريقة جديدة من التعبير، وعندها لا تكتفي اللغة الشعرية بالصورة، بل تتعداها في بحثها عن الإيحاء والتوسع والشمول إلى الرمز.
إن رسم اللوحة السردية في أسلوب السقاف يمارس الزج بالقارئ في عالم التأمل، مسقطة في وعيه روح الأمل والتفاؤل الذي يتسم به أسلوبها طيلة عطائها الأدبي، فلا تكاد تخلو مقالة من بياض، وأمل قادم، واستشراف حسن، أو فأل جميل، أو تاريخ ناصع، أو شخص فائت أعاد الوصف حضوره البهي للذاكرة.
إن دور النص في مقالات خيرية السقاف لا يتوقف عند كلماته ومستويات نظامه اللغوي بأصواته وصرفه ونحوه ودلالته اللفظية، بل ينفذ إلى ما وراء النص المتكامل من عوامل معرفية ونفسية واجتماعية، ومن عمليات عقلية، كأن النص حصيلة لتفاعلها جمعيا؛ لتلقي بالمفهوم المضموني عبر الإبداع النصي وبلاغته، فتشكل مفاهيم موسومة بعمق الرؤية، ورحابة القناعات الإيجابية التي تحملها الرسالة الأدبية لديها، ويتضح ذلك من خلال ما قدمته مقالات خيرية السقاف عبر نصف قرن أو أكثر من توجيه للأفكار وإصلاح للمفاهيم، وإفادة ومنافع فكرية وسلوكية، وقضايا في ما تحمله كل مقالاتها من هم ورسالة.
* محاضرة في جامعة الملك عبدالعزيز.